اكتشاف جيني يعيد رسم الروابط بين مصر وبلاد الرافدين
في دراسة وُصفت بأنها "اختراق علمي" ونشرتها مجلة
Nature، توصّل فريق بحث دولي إلى دليلٍ جيني مباشر يؤكّد وجود صلات بشرية قديمة بين مصر وبلاد الرافدين، لتُضاف هذه النتيجة إلى سلسلة الأدلة الأثرية التي طالما أشارت إلى وجود تواصلٍ تجاري وثقافي بين الحضارتين، مثل تشابه تقنيات صناعة الفخار وأنظمة الكتابة التصويرية منذ ما لا يقل عن ستة آلاف عام قبل الميلاد.
وصرّح دانيال أنطوان، أمين قسم مصر والسودان في المتحف البريطاني، لوكالة
أسوشيتد برس بأنّ "هذا الاكتشاف بالغ الأهمية، إذ يقدّم أول دليل مباشر لما لم يكن سوى افتراضات في دراسات سابقة".
كيف تمّ الاكتشاف؟ وما الذي جعله ممكنًا؟
ظلّ ضعف حفظ الحمض النووي في مناخ مصر الجاف عائقاً أمام دراسة الأنساب القديمة بدقّة. لكنّ الحفاظ الاستثنائي على هيكل عظمي داخل جرّة فخارية مختومة في مقبرة صخرية بمنطقة "نويرات"، الواقعة قرب بني حسن على بُعد 265 كيلومتراً جنوب القاهرة، أتاح للعلماء فرصة نادرة لاستخلاص الحمض النووي الكامل من بقايا رجل مصري عاش بين عامي 2855 و2570 قبل الميلاد، أي بعد قرون قليلة من توحيد مصر وبداية فترة الدولة القديمة.
وأظهرت تحاليل العظام التي أجراها الفريق المكون من 21 عالما، أنّ الرجل كان في الستين من عمره، وعانى من التهابات في المفاصل تشير إلى مهنة يدوية مرهقة، من المحتمل كصانع فخار. واللافت أنّ دفنه داخل جرة فخارية كبيرة داخل قبر صخري يشير إلى مكانة اجتماعية مرموقة نسبياً في تلك الفترة.
ماذا كشف الجينوم عن أصوله؟
استطاع الباحثون استخراج الجينوم الكامل من أسنان الهيكل العظمي، وكشفت التحاليل أن نحو 80% من المادة الوراثية للرجل تعود إلى أصول شمال إفريقية، وهي متوقعة في السياق المصري القديم. لكن المفاجأة كانت في أن نحو 20% من جيناته تُشير إلى أصول تعود إلى منطقة الهلال الخصيب الشرقي، وبالتحديد ما يُعرف تاريخياً ببلاد الرافدين، أي منطقة ما بين نهري دجلة والفرات.
ويشير الباحثون إلى أن هذا الرابط الجيني لا يمكن تفسيره من خلال تبادل السلع أو الأفكار فقط، بل يرجّح حدوث تداخل سكاني حقيقي وانتقال أفراد بين المنطقتين، على الأرجح عبر نهر النيل، الذي وصفه أنطوان بـ"الطريق السريع القديم" الذي لم يسهل فقط حركة البضائع والثقافات، بل البشر أيضاً.
يفتح هذا الكشف الباب أمام إعادة النظر في سرديات الاستقلال الحضاري لمصر القديمة، ويقترح أن التأثيرات العابرة للإقليم لم تقتصر على تبادل المحاصيل أو الحرف، بل شملت تفاعلات بشرية أعمق، ربما لعبت دوراً في نشوء أنظمة الحكم والدين والعمارة في بدايات الدولة المصرية الموحدة.
ويأتي هذا الاكتشاف في وقتٍ تتزايد فيه الدعوات لاستخدام تقنيات الجينوم في دراسة الحقب التاريخية الأولى من مصر، والتي لطالما بقيت خارج متناول الأبحاث الجينية بسبب ظروف التحلل البيولوجي، لتشكل هذه الدراسة خطوة أولى واعدة نحو فهم أوسع للحركة السكانية في العصور القديمة.